أكبر لغزين في الحياة هما قطعًا الموت والحبّ.
كلاهما ضربة قدر صاعقة لا تفسير لها خارج ( المكتوب ). لذا، تتغذّى الأعمال الإبداعيّة الكبرى من الأسئلة الوجوديّة المحيّرة التي تدور حولهما .
ذلك أنّ لا أحد يدري لماذا يأتي الموت في هذا المكان دون غيره، ليأخذ هذا الشخص دون سواه، بهذه الطريقة لا بأخرى، و لا لماذا نقع في حبّ شخص بالذات . لماذا هو ؟ لماذا نحن ؟ لماذا هنا ؟ لماذا الآن ؟
لا أحد عاد من الموت ليخبرنا ماذا بعد الموت. لكن الذين عادوا من " الحبّ الكبير " ناجين أو مدمّرين، في إمكانهم أن يقصّوا علينا عجائبه، ويصفوا لنا سحره وأهواله، وأن ينبّهونا إلى مخاطره ومصائبه، لوجه الله .. أو لوجه الأدب.
إذا لم يكن للأدب في حياتنا دور المرشد العاطفيّ من يتولاه إذن ؟
ومن يعدّنا لتلك المغامرة الوجدانيّة الكبرى، التي ستهزّ كياننا عندما لا نكون مهيّئين لها. وستواصل ارتجاجاتها التأثير في أقدارنا و خياراتنا، حتى بعد أن ينتهي الحبّ ويتوقّف زلزاله.
إن كانت الهزّات العاطفيّة قدرًا مكتوبًا علينا، كما كُتبَتْ الزلازل على اليابان، فلنتعلّم من اليابانيين إذن، الذين هزموا الزلزال بالاستعداد له، عندما اكتشفوا أنّهم يعيشون وسط حزامه.
يمرّ زلزال خفيف على بلد عربي، فيدمّر مدينة عن بكرة أبيها، ويقضي على الحياة فيها لسنوات عدة. ذلك أنّ الإنسان العربي قدريّ بطبعه، يترك للحياة مهمّة تدبّر أمره، و في الحياة كما في الحبّ لا يرى أبعد من يومه. وهو جاهز تمامًا لأن يموت ضحيّة الكوارث الطبيعيّة أو الكوارث العشقيّة، لأنّه يحمل في تكوينه جينات التضحيات الغبيّة للوطن و للحاكم المستبد.. و للعائلة و الأصدقاء و للحبيب .
و تصمد جزر اليابان يوميًّا في وجه أقوى الزلازل. كلّ مرة تخرج أبراجها واقفة و أبناؤها سالمين. عندهم يعاد إصلاح أضرار الزلازل في بضعة أيام. و تعدّ الخسائر البشرية بأرقام مقياس ريختر.. لا بقوّته. فقلّما تجاوز الضحايا عدد أصابع اليد .
صنعت اليابان معجزاتها بعقلها، و صنعنا كوارثنا جميعها بعواطفنا.
ماذا لو أعلنّا الحبّ كارثة طبيعيّة بمرتبة إعصار أو زلزال أو حرائق موسميّة. لو جرّبنا الاستعداد لدمار الفراق بتقوية عضلة قلبنا الذي صَنعَتْ سذاجته و هشاشته الأغاني العاطفيّة و الأفلام المصرية التي تربّينا عليها.
كما المباني اليابانيّة المدروس عمارها ليتحرّك مع كلّ هزّة علينا أن نكتسب مرونة التأقلم مع كلّ طارئ عشقيّ. و التكيّف مع الهزّات العاطفيّة و ارتجاجات جدران القلب التي تنهار بها تلك الأشياء التي أثّثنا بها أحاسيسنا. و اعتقدنا أنّها ثابتة و مسمّرة إلى جدران القلب إلى الأبد.
علينا أن نربّي قلبنا مع كلّ حبّ على توقّع احتمال الفراق. و التأقلم مع فكرة الفراق قبل التأقلم مع واقعه. ذلك أنّ في الفكرة يكمن شقاؤنا.
ماذا لو جرّبنا الاستعداد للحبّ بشيء من العقل ؟ لو قمنا بتقوية عضلة القلب بتمارين يوميّة على الصبر على من نحبّ. أن نقاوم السقوط في فخاخ الذاكرة العاطفيّة التي فيها قصاصنا المستقبلي. أن ندخل الحبّ بقلب من " تيفال "، لا يعلق بجدرانه شيء من الماضي. أن نذهب إلى الحبّ كما نغادره دون جراح، دون أسًى، لأنّنا مصفّحين ضدّ الأوهام العاطفيّة. ماذا لو تعلّمنا ألّا نحبّ دفعة واحدة، و ألّا نعطي أنفسنا بالكامل، وأن نتعامل مع هذا الغريب لا كحبيب، بل كمحتل لقلبنا وجسدنا وحواسنا، ألّا يغادرنا احتمال أن يتحوّل اسمه الذي تنتشي لسماعه حواسنا، إلى اسم لزلزال أو إعصار يكون على يده حتفنا و هلاكنا ؟
أيّتها العاشقات الساذّجات، الطيّبات، الغبيّات.. ضعن هذا القول نصب أعينكن: "ويل لخلّ لم ير في خله عدوًّا".
ليشهد الأدب أنّني بلّغت !
من رواية نسيان!!!!!!ali don